بسم الله الرحمن الرحيم
الســـلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قال بعضهم: وهل يدخلني الله النار لا لشيء إلا أني ولدت في أقصى الصين أو في مجاهل أفريقيا ولم أسمع عن الإسلام شيئا!!!
وهذا الكلام في الغالب، لا يصدر إلا من جاهل بالله وحكمته وعدله أو من إنسان يريد الجدال بالباطل.
وللإجابة عن هذا السؤال لا بد أن نقرر الحقائق التالية:
الحقيقة الأولى: أن الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء وملك كل شيء، له ما في السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى، قال سبحانه (أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) يونس 55.
وقال جل وعلا (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير) المائدة 40. والنصوص التي تثبت أن الله ملك كل شيء ومالك كل شيء لا تحصى كثرة.
وإذا تقرر هذا فالجميع يعلم أن الملك والمالك يتصرف فيما تحت يده دون أن يستدرك عليه أحد أو يسأله أحد، ولهذا قال جل وعلا : (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) الأنبياء 23.
وعلى هذا، لو أن الله سبحانه وتعالى عذب الخلق كلهم لم يكن ظالما لهم ولو أدخلهم الجنة لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم. ومع هذا فـــ:
الحقيقة الثانية: أن الله سبحانه وتعالى حكم عدل قد حرم الظلم على نفسه كما قال جل وعلا (إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) النساء40.
وقال جل وعلا (إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) يونس 44.
وقال سبحانه في الحديث القدسي (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي...) الحديث.
فلا يمكن أن يعذب الله الإنسان حتى تبلغه الحجة بلوغا لا يبقى له معه عذر.
جاء في فتاوى اللجنة الدائمة ما يلي:
(المسلمون لا يحكمون على غيرهم بأنهم في النار إلا بشرط وهو: أن يكونوا قد بلغهم القرآن أو بيان معناه من دعاة الإسلام بلغة المدعوين؛ لقول الله عز وجل: { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } ، وقوله سبحانه: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } ، فمن بلغتهم الدعوة الإسلامية من غير المسلمين وأصر على كفره فهو من أهل النار لما تقدم من الآيتين، ولقول النبي صلى لله عليه وسلم: « والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار » خرجه مسلم في صحيحه والأدلة في هذا المعنى من الآيات والأحاديث كثيرة. أما الذين لم تبلغهم الدعوة على وجه تقوم به الحجة عليهم فأمرهم إلى الله عز وجل، والأصح من أقوال أهل العلم في ذلك: أنهم يمتحنون يوم القيامة فمن أطاع الأوامر دخل الجنة ومن عصى دخل النار، وقد أوضح هذا المعنى الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره؛ لقول الله عز وجل: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا }، والعلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه [طريق الهجرتين]). أ.هـ.
الحقيقة الثالثة: أن الله سبحانه وتعالى قد ركب في جميع المكلفين عنصرين أساسيين جعلهما مناط التكليف. وإذا فقد المكلف أحد هذين العنصرين ارتفع عنه التكليف ولم يؤاخذ بما يصدر منه.
هذان العنصران هما : القدرة والإرادة.
فغير القادر على الواجب لا يؤاخذ على تركه كما قال سبحانه وتعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) التغابن 16. وقال جل وعلا (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) البقرة 286. قال صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: (صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب). رواه البخاري.
كما أن الإنسان إذا أكره على عمل ممنوع ولو كان هذا العمل كفرا فإن الله لا يؤاخذه كما قال سبحانه وتعالى (مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) النحل 106. والنصوص التي تبين أن المكره غير مؤاخذ غير هذا كثيرة جدا.
إذا لا يمكن أن يؤاخذ الإنسان بذنب من ترك واجب أو فعل محرم حتى يكون فعله لهذا الذنب عن عمد وعلم واختيار.
الحقيقة الرابعة: أنه بحسب توجه الإنسان المبني على قدرته وإرادته، بحسب هذا التوجه يكون توفيق الله للإنسان فإذا علم الله من الإنسان إرادة الخير والسعي له وفقه للخير وجعله من أهل السعادة وإذا علم منه إرادة الشر والسعي له جعله من أهل الشر والشقاء نسأل الله العافية.
ولإثبات هذه الحقيقة تعالوا نستعرض هذه النصوص التي تبين أن قصد الإنسان ونيته هما اللذان يحددان مصيره:
- قال تعالى: (وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) التغابن 11. فجعل الله سبحانه وتعالى هداية القلب متوقفة على الإيمان المتضمن للتسليم بأمر الله وأمر رسوله والتصديق بخبر القرآن والسنة. ولهذا يقال لكل من حار في شيء من أمور الشرع (آمن تهتد)، فمن استسلم لأمر الله وصدق بخبره فتح الله عليه من مغاليق العلوم ما لا يخطر له على بال، وأراه الله من الآيات والدلالات ما يزيل الشكوك والتردد عن قلبه. وقصة الصحابة رضي الله عنهم في نزول قوله تعالى: (وإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله.....) البقرة284، مشهورة فراجعها إن شئت فإنها مفيدة.
- قال تعالى: (فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى{5} وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى{6} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى{7} وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى{8} وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى{9} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى{10}) سورة الليل، فبين سبحانه وتعالى أن التيسير لليسرى أو للعسرى بحسب نية الإنسان وقصده.
- قال تعالى: (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) البقرة 10. فبين سبحانه أن المرض موجود في قلوبهم وناتج عن سوء قصدهم فكان عقاب ذلك أن زاد الله هذا المرض عليهم.
- قال تعالى: (وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ) الأنفال 23. فبين سبحانه أن المانع من فهمهم لكلام الله هو فقد الخيرية ولو أرادوا الخير وتوجهوا له لسمعوا كلام الله سماعا ينفعهم. وذكر سبحانه أنه لو أسمعهم مع عدم استعدادهم وأهليتهم للسماع لتولوا وهم معرضون.
- قال تعالى: (فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ) الأعراف 30. فبين سبحانه وتعالى أن الضلالة حقت على من تولى الشياطين من دون الله.
ولو ذهبنا نستقصى النصوص التي وردت في الكتاب والسنة في هذا المجال لطال بنا المقام، وترتيب الثواب والعقاب على قصد الإنسان ونيته بعد قدرته وإرادته أمر معلوم بالضرورة لا يجادل فيه إلا مكابر.
فتحصل من هذا الكلام كله أمران:
الأول- أن الله سبحانه وتعالى لا يظلم أحد بتعذيبه حتى تبلغه الحجة الواضحة التي لا يبقى معها عذر.
الثاني- أن الله ركب في الإنسان عنصري القدرة والإرادة وجعلهما مناط التكلف، وإذا اختل أحد هذين العنصرين ارتفع التكليف عن الإنسان. والحمد لله.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي وعذاب الآخرة.
والســـــــــلام